لماذا نصلي يا أبي ؟!
 
من الأمور التي يتهاون بها كثير منا ؛ الإجابة بأسلوب مقنع عن أسئلة الأطفال الدينية خاصة في مسائل الإيمان ، ولبروفسور الرياضيات المسلم " جيفري لانغ " إجابة لطيفة عقلانية ميسرة عن سؤال : لماذا نصلي ؟ قد تناسب بعض الأطفال الذين فطروا على كثرة الأسئلة .
 
أبي .. لماذا نصلي ؟
 
يذكر " جيفري لانغ " أن ابنته " جميلة " ذات السنوات الثمان سألته مرة بعد أن أديا معاً صلاة الظهر : " لماذا نصلي يا أبتي ؟ " ، ويذكر أنه دُهش لسؤالها ، ثم قال لها : " نصلي ؛ لأن الله يريدنا أن نصلي " ، قالت : " ولكن لماذا يا أبي ! فماذا يمكن للصلاة أن تفعله ؟ " .
 
يقول "لانغ" : لم أرد أن أضيع الفرصة بمشاركتها رأيها عن تجربة الصلاة ومزاياها الحميدة ، قلت لها : " حبيبتي تعلمين أن الله هو مصدر كل المحبة والرحمة والحكمة ، وهو مصدر كل الجمال الذي نعيشه ونشعر به . فكما أن الشمس هي مصدر الضوء الذي نبصر من خلاله في النهار ، كذلك فإن الله هو مصدر كل هذه الخصال بل أكثر من ذلك بكثير .
 
وهكذا فالحب الذي أشعر به حيالك أنت وأمك وأختيك هو الحب الذي منحني الله إياه ، ونحن نعلم أن الله رؤوف رحيم ، وعندما نصلي فإننا نشعر بمحبة الله ورحمته بطريقة خاصة جداً ، وهي الطريقة الأكثر قوة . فمثلاً تعلمين أنني وأمك نحبك وذلك من خلال اهتمامنا بك ، ولكن عندما نحتضنك ونقبلك فإن بمقدورك أن تشعري بمدى حبنا لك . وبطريقة مماثلة نحن نعلم بمحبة الله لنا ورحمته بنا من خلال حفظه لنا ، وعندما نصلي فإننا نستطيع أن نشعر بمحبته بطريقة خاصة وحقيقية جداً " .
 
هل صلواتك تجعلك أباً أفضل ؟
 
سألتني ثانية : " ولكن هل الصلاة تجعل منك أباً أفضل بالنسبة إلينا ؟ "
 
قلت لها : " أتمنى ذلك ، وأحب أن يكون ذلك ؛ لأنك عندما تشعرين بمحبة الله لك ورأفته بك من خلال الصلاة ، ويا له من شعور جميل وقوي – أقصد الحب - تشعرين بالحاجة أن تتقاسميه مع كل من هم حولك ، وخاصة أسرتك !
 
أحياناً وبعد يوم مضن من العمل أشعر بالإرهاق لدرجة أحب أن أخلو فيها بنفسي ، ولكن إذا شعرت برحمة الله في صلاتي أنظر إلى أسرتي وأتذكر كيف أنكم نعمة أنعمها الله علي ، ومن ثم أشعر بالغبطة والسرور لا لشيء إلا أنني والدكم وزوج أمكم ، إنني لا أدعي أنني الوالد المثالي ، ولكنني أشعر أنني لن أكون ذلك الوالد الطيب دون صلواتي ، بل إن هذه الصلوات تجعل مني أباً أفضل لكم . والآن هل تجدين يا بُنيتي في إجابتي معنى لسؤالك ؟ "
 
ردت جميلة : " أظن أنني أفهم ما تعنيه يا أبتي " ثم عانقتني قائلة : " وأنا أحبك يا أبي " . ( حتى الملائكة تسأل ص 238-240 بتصرف).
 
قلتُ في مناسبة سابقة : يجب ألا ننزعج من أسئلة الأطفال المتعلقة بالخالق سبحانه أو بأصول الدين الأخرى ، فهي دليل قوي على أن فطرة الإيمان قد تحركت في قلوبهم ، فعلينا ألا نقمع تلك الأسئلة بل نرحب بها ونجتهد في تسهيل الأجوبة وتيسيرها بطريقة مناسبة لأعمارهم ، وقد نوهت بأن المؤلفات في هذا المجال نادرة جدا ، وبعد البحث لم أجد إلا كتاباً واحداً للدكتور بسام العموش ، اعتنى فيه بمساعدة الوالدين والمعلمين في الإجابة عن أسئلة الأطفال العقائدية ، وهو جهد مشكور رائد ، يستحق أن يطور بمشاركة أساتذة من تخصصات شرعية و تربوية ونفسية ؛ ليسهل تعميمه عبر منافذ الإعلام المتعددة ، بل حتى على المقررات الدراسية الدينية المخصصة للأطفال ، التي لم تزل للأسف تنقصها الكفاءة العصرية المطلوبة .
 
نحتاج بشدة إلى الصلاة !
 
عندما استعرض " لانغ" أول صلاة صلاها في حياته بعد اعتناقه للإسلام ، سجل هذه الانطباعات المهمة وعلينا أن نتذكرك أن المتكلم هنا كان ملحداً لا يؤمن بوجود الله ويرفض الأديان ، فلنقرأ بتركيز وهدوء هذه الكلمات العميقة من شخص خاض تجربة بروفسور أمريكي تحول من الإلحاد إلى الإسلام :
 
" سرت في جسدي موجة من البرد أخذت تشع في مكان ما من صدري ، وانتابتني قشعريرة ، شعرتُ وكأن الرحمة قد حلت بي لتغمرني حالة من الروحانية والسكينة . انهمرت الدموع فوق وجنتي ووجدت نفسي أبكي بلا توقف ، وكلما ازداد بكائي شعرت بقوة هائلة من الرقة والعطف تعانقني ، كأن سداً كبيراً قد انهار ليفيض منه مخزون هائل من الخوف والغضب ، إن رحمة الله تتجاوز مسألة غفران الذنوب لتشتمل على تطهير النفس وغرس السكينة فيها . وعندما توقفت عن البكاء أخيراً كنت مرهقاً تماماً ، وأدركت أني كنتُ بحاجة ماسة إلى الله وإلى الصلوات "
 
وقبل أن ينهض بعد تلك الصلاة الأولى توجه إلى الخالق سبحانه بهذا الدعاء المؤثر :
 
" يا رب إذا ما جنحتُ مرة ثانية إلى الكفر بك .. اللهم أهلكني قبل ذلك .. لا أطيق العيش ولو ليوم واحد وأنا منكر لوجودك "
 
( الكتاب السابق ص 234باختصار ) .
 
إن الملحد يعلم يقيناً أن ما بينه وبين خالقه هو حاجز كبير شيده بنفسه ، فما إن ينهار ذلك السد الآثم المتكبر المتعجرف إلا وسيجد مع انهياره أنهاراً من الرحمة والسكينة تروي صحراء روحه القاحلة ، كغيمة جميلة تمطر في يوم ربيعي تُشبع الأرض بغيثها وترطب نسائم الهواء بنداها ، حينها يستعيد الملحد نفسه من قبضة العدم والإنكار الكاذب ، لحظتها ولحظتها فقط يكتشف معنى ( الإشباع العاطفي ) ، الذي يجوع البشر إليه بشدة ، لقد عبر " لانغ " تعبيراً جميلاً عن تلك اللحظة الفارقة في حياته عندما صلى أول صلاة بعد إسلامه وابتهل إلى خالقه مقراً بألوهيته في أول دعاء ، هذا المشهد من الصعب جداً علينا أن ننساه في قصة هذا البروفسور المسلم ، نعم من الصعب جداً أن يُنسى ؛ لأنه المشهد المفصلي في القصة ونقطة التحول الكبرى .
 
الصلاة بوصلة المسلم !
 
يقول "لانغ" : إذا كان الهدف الرئيس من حياتنا هو التقرب أكثر فأكثر إلى الله ، فإن الصلاة جوهرية من أجل الوصول إلى ذلك الهدف ، إنها بوصلة المسلم الروحية ، من خلالها يتنبه لتقلباته الإيمانية ، إن الصلوات الخمس تعين المسلم على قياس نمائه في الإيمان ؛ لأنها مقياس رئيس يومي لدرجة خضوع المؤمن لربه ، إن النهوض من الفراش قبل الفجر لأداء الصلاة كل يوم يتطلب تصميماً كبيراً ، وفي هذا امتحان وتحد لقوة إرادة المسلم وضبطه لنفسه . ( الكتاب السابق ص 235باختصار)
 
المتلذذ بصلاته .. يستنشق عبير الجنة !
 
ويسطر " لانغ " عبارات أخاذة في وصف مشاعر المسلم حين يستلذ بصلاته ، فيقول : " خلال الصلاة هناك لحظات من الحقيقة والإخلاص والصدق والتواضع ، ويدرك المسلم من خلالها نور الله وواسع رحمته ، إنها مشاعر رائعة الجمال تزيد المسلم تواضعاً ، إنها مشاعر من النشوة ، ذلك أنك عندما تسجد على الأرض تشعر فجأة كأنك رُفعت إلى الجنة ؛ لتتنفس من هوائها ، وتشتم تربتها ، وتتنشق شذى عبيرها ، إنها لحظات من الحب المقدس تغرس في المتعبد شوقاً عارماً كي يكون قريباً من الله ، وتصبح الآخرة هي هدفه الأساس .
 
إن حرص المسلمين على صلواتهم ؛ لأنهم بحاجة ماسة لها فهي المصدر الأساس لغذائهم الروحي ووسيلتهم الأقوى للتواصل مع الله ، فالمسلم الملتزم لا يستطيع أن يخاطر ولو بصلاة واحدة ؛ لأنه يعلم أن نمو مركزه الروحي – القلب – يكمن في قدرته على الأداء المستمر والثابت لشعيرة الصلاة ، فهي تذكره بهدفه في الحياة ، وتعينه على بناء قوته الداخلية .
 
كنتُ كرضيع يستمع لصوت أمه !
 
وفي عبارات خاشعة تترجم الأحاسيس المخبتة ، يقول "لانغ" : " في الأيام التي تلت إسلامي كنت أحضر صلاة الجماعة مواظباً بشكل خاص على الفجر والمغرب والعشاء ؛ لأنه يُجهر بقراءة القرآن فيها .
 
وسألني أحد المسلمين : لماذا تجهد نفسك للمجئ لاسيما وأن القراءة بلغة عربية لا تفهمها ؟
 
فأجبته على نحو فطري بسؤال آخر : لماذا يسكن الطفل الرضيع ويرتاح لصوت أمه ؟ صحيح أنه لا يفهم كلماتها ، لكن صوتها مألوف له ويُشعره بالسكينة ، لقد مرت بي لحظات كنت أتمنى فيها أن أعيش تحت حماية ذلك الصوت للأبد " ( الصراع من أجل الإيمان ص 119-120)
 
هذه المعاني لا يعرف قيمتها ويشعر بها إلا الذين ( استلذوا بصلواتهم ) ، أما الذين لم يعرفوا معنى ( أرحنا بها يا بلال ) وكانت صلواتهم من قبيل ( أرحنا منها ) فلن يفهموا هذا الكلام أبداً أبداً بل ربما استخفوا به لجهلهم .
 
إن الذين ذاقوا فعرفوا ، سيجدون لكلمات " لانغ " أهمية ، أما من لم يذوقوا (لذة الصلاة) ؛ فهم عن هذه المعاني محجوبون .
 
ومن لم يشرب من نهر اللذة الروحية ، ولم يستطعمه يوماً في حياته ، فأنّى له أن يفهم .. وأنّى له أن يعلم !
 
هذه المعاني فوق العبارات ، بل نطاقها في فضاء ما وراء الكلمات ، هي أشياء تعانق الأحاسيس وتُختزن في الخبرات المُدركة ، هي تجربة محسوسة لا يمكن أن يتصورها أو يستشعرها إلا من عاشها .
 
فإن كنتَ ممن لم يختبر هذه اللذة من قبل ، فأنت لست حياً روحياً !
 
كما قال القائل : إذا كنا نحيا بالروح ، فعلينا أن نسلك طريق الروح !
 
اللهم إنا نسألك أن تُحيي أرواحنا بذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، وألا تجعلنا ممن ماتت " روح " روحه فنسي ربه و نفسه .
 
 * منقول 
الكاتب : أ. د خالد الدريس